الأربعاء، ديسمبر 24، 2008

رحلة "حريك" خاصة


رحلة "حريك" خاصة
بقلم د.أحمد بوعشرين الأنصاري
عضو التنسيقية الوطنية للأطر العليا المعطلة

كان الجو جميلا في ذلك الصباح، بنسيمه البارد، كنا خمسة عشرة فردا، نستعد لركوب قارب لينقلنا إلى "الضفة الأخرى" حيث الأمان، كان الكل حزينا و خائفا، تظهر على محياه علامة الأسى والحسرة وهو يغادر هذه الضفة، أقدامنا ترتجف،
لا أعرف لماذا، ربما لشوقها العبور إلى تلك الضفة الأخرى، ربما لأن هذه الأرض لم تعد تستسيغ قرعات نعالنا وأحذيتنا، فأرادت أن تشعرنا بعدم ارتياحها لهذه القرعات المزعجة فكانت رجفات أقدامنا الخائفة من رجفاتها الغاضبة، وقد تكون أشفقت من "حالنا البئيس"، فكان أن تحركت عاطفتها الجياشة معبرة عن هذه الإشفاق، فكانت رجفات أقدامنا من رجفات تعبيراتها المشفقة علينا،
"هيا اركبوا، أسرعوا سننطلق"، هكذا صاح فينا صاحب القارب، وقد أعد العدة لهذا العبور، لعله يكون عبور خير وبركة علينا جميعا، فنفرح لأننا سلكنا المعبر، ونفرح أيضا لأننا نجونا من جحيم ما كان ينتظرنا في الضفة التي تركنا، بدأنا بالركوب واحدا واحدا، البعض قفز، البعض الآخر احتاج لمد يد المساعدة من النساء اللواتي أيضا أضطررن إلى اختيار هذه المغامرة، ومنهن من كان على وشك البكاء خوفا وأسى، لولا أن أحس بشيء من الأمان وقد أخذ مكانه في القارب والقارب قد انطلق،
نحن الآن وسط المياه ، يميل بنا القارب شمالا ويمينا، وفي كل مرة "تزعجنا" صرخات بعضهن تعبيرا عفويا منهن عن ذلك الخوف الذي يعتري كل منا ولا نعبر عنه جميعا، فقط النساء لهن الشجاعة للتعبير عنه بطريقتهن، نعم على الأقل "في هذه الحالة" هن أكثر شجاعة منا نحن الرجال،
تبدو لنا الطريق لازالت طويلة، وهذه العصافير التي تحلق حولنا تضفي على المشهد نكهة جمالية ورومانسية،
عفوا ! إنه إحساس مسروق لكنني مرغم أن أعبر عنه، ومن يدري قد ننجو ويصبح ما أحكيه تحفة نادرة وجميلة تختلط فيها لحظات الخوف مع الجمال والرومانسية، فتعطي إحساسا فريدا تستحق به هذه التحفة ندرتها وجماليتها،
ليست العصافير هي التي تغني بل حتى هؤلاء "المستضعفون في القارب" راودتهم فكرة الغناء الجماعي،
حقا كم هو عجيب هذا الإنسان، يتذكر أجمل الأشياء في أحلك الحالات، قد لا يخطر ببالنا الغناء ونحن أحرارا طلقاء في منازلنا أو بين أهلينا أو بين أصدقائنا، لكن في هذا الوضع، ربما يعترينا إحساس أن هذه الفرصة قد تكون الوحيدة، و من يدري قد لا تتكرر، وإذن لم لا التعبير عن كل شئ جميل في هذه اللحظات لم نتمكن من التعبير عنه في زخم حياتنا العادية،
مهلا !!! لم نصل بعد لا زال القارب يميل بنا ولا زال مشهد الصرخات النسائية تتكرر، ولا زال البعض منا يطربنا ببعض الترانيم الجميلة ونرددها معه، ولا زالت العصافير تحلق حولنا ولازال ذلك الأمل معلقا لدينا أن نصل إلى الضفة الأخرى بأمان ونستأنف حياة جديدة ومسيرة جديدة وكفاحا جديدا، قد تبدو الحكاية مملة بتكرار هذه المشاهد، وقد يبدو موضوعها سئمه جمهور القراء،
العديد من القصاص والأدباء ألفوا فيه قصصا وحكايات وسيرا ذاتية، تحدثوا عن "الحريك"، نعم، تحدثوا عن الأمل في عبور الضفة الأخرى، نعم، تحدثوا عن مغامرات بعضهم لكي ينعم بكرامة إنسانية حين يصل إلى تلك البلاد "ملاذ الفقراء والمستضعفين"، نعم، تحدثوا عن محنة بعضهم مع شرطة مراقبة الهجرة السرية، نعم، لكن لا أظن أن أحدهم قد راودته فكرة أن يكتب عن رحلة حريك خاصة وفريدة عبر قارب يحمل خمسة عشر فردا، فارين من الإهانة، إلى ضفة قريبة من الضفة التي غادروها، فقط لأنهم تظاهروا احتجاجا على وضعية عطالتهم وهم أطر عليا معطلة ويا للحسرة !!!! ، عفوا تلك كانت قصة خمسة عشر إطارا عاليا لاحقتهم قوات الشرطة حتى ضفاف واد أبي رقراق بسلا، فكان أن امتطوا قاربا ينجيهم من عصا هذه القوات ومن إهانتهم لهم،لينقلهم إلى الضفة الأخرى "بر الأمان المؤقت" لديهم ليستئنفوا مسيرتهم النضالية من جديد، معذرة عن هذا الإزعاج أيها القراء الكرام...

كتبت يوم الاثنين 22 دجنبر 2008

ليست هناك تعليقات: